رهــــان …. !
بقلم : عابر سبيل
لا تعرف عنه أي شيء .. حتى اسمه أو مهنته ..!
كان يفاجئها دائـمًا وقد استوى فوق كرسي الخيزران حول الطاولة الصغيرة المعـدّة لشخصين , في الركن الشرقي – الجنوبي , المطل على الشارع , المنحدر بقوة نحو الجنوب , حتى المفترق الكبير في أسفل الوادي ..
حاولت مرارا أن تضبطه وقت دخوله , لتعرف من أين وكيف بالضبط يأتي , ولكنها كانت دائـمـًا تخفق ..
يجلس هادئــًا .. كأنه لا يشعر بالذين حوله أبدًا .. يخرج بعض أوراق من شنطة كتف سوداء صغيرة .. يكتب فوقها أو ربما يشطب منها , لا تعرف ..
بخلاف بقية الزبائن , لا ينادي , ولا حتى يشير لأحد بخصوص طلبيته, بل ينتظر إلى أن تتقدم منه هي أو زميلتها , ليطلب همسًا قهوة وكوب ماء .. ثم يواصل انشغاله بأوراقه .. كانت أحيانــًا تضبطه وقد رفع عينيه عن الورق , ليديم التحديق جنوبــًا نحو المنحدر , كأنه ينتظر أحدًا ..
مع ذلك كان دائـمـًا يخرج , كما دخل , وحده ..
استفزها هدوءه الصارخ ..!
أثارها غيابه الموغل في الحضور ..
حيرتها لا مبالاته المدويــه ..!
ذات صباح قررت أن تطبق عليه خطة أعدتها خلال الليل .. تعمدت الدوران حول طاولته , ملبية ً طلبات رواد المقهى , رافعة ً صوتها وقت الحديث إليهم , متعمدة ً إصدار ضوضاء مفتعله حتى في مشيها , مولية ً له ظهرها , مع أن حواسها كلها عنده ..
بعد أن أنهت مهامها هناك , وقفت عند الركن المخصص لتجهيز الطلبات , قريبـًا من المدخل الرئيسي .. تظاهرت بالانشغال في العمل أو بالحديث مع زميلتها , ولكنها لازمت مراقبته من طرف خفي .. مشدودة أعصابها كوتر القوس ..
مرت نصف ساعة أو أكثر .. كانت بالنسبة لها نهارًا كاملا .. واصل قلبها الخفقان بقوة , يتنازعه شعور هو خليط من الخوف والخجل ..
لماذا تفعل الذي تفعله ؟
أمسّت لا مبالاته غرور الأنثى فيها ؟ أم ربما فضولها النسائي هو الذي يدفعها لرغبة اكتشاف الاسرار ..؟
ولكن هي مطالبة بخدمة الزبائن على الوجه الافضل , فلماذا تقحم رغبة ً شخصيـة في واجبات العمل ؟ أليس من الممكن أن يحتج ضد هذه المعاملة , ويسمع كل الموجودين ؟ ماذا ستفعل حينها ؟
ثم ماذا لو شكاها عند صاحب المقهى ؟
من أين لها هذه الثقة لتراهن على ذكــاء رجل لا تعرفــه ..!؟
لماذا تخاطر النساء بكل شيء في سبيل فك رموز غموض رجل ..؟
في مرحلة معينة لمحته يلملم أشياءه بنية المغادره .. قررت أن تسعى نحوه لتعتذر, لكن جواله , في هذه اللحظة بالذات رن .. راح يجري مكالمة مع أحدهم , وبيده الأخرى يواصل لملمة أشيائه من على الطاولة ..
مشى نحو الباب .. كانت خطواته خفيفة كأن قدماه لا تمسان الارض .. يسير بغير ضؤضاء كأنه طيف ..
تقدمت خطوتين حتى صارت في طريقه تقريبــًا .. مر بالقرب منها .. تجاوزها .. همت بالتفوه ولو بكلمة لتستوقفه .. لكنه لم ينتبه .. مشت وراءه خجلة ً متعثرة الخطى , لكنه مشغول مع الشخص الذي على الطرف الآخر..
لما صار في الخارج .. ألقت مريول العمل عن جسدها بسرعه وتبعته , لعل تلك المكالمة اللعينة تنتهي .. لكنه ركب سيارته وهو ما زال يمسك الجوال عند أذنه , ثم ابتلعته المدينة ..!
عادت أدراجها مكسوفة البال حزينـه .. تمنت لو أنها تملك الامساك بسوط لتجلد نفسها أسفـًا .. خطر ببالها مثل شعبي كانت جدتها تردده , يقول ” جا يكحلها عماها ” ..
لم تذق طعم النوم تلك الليــلة إلا قبيل الفجر بقليــل .. ولما زاد ضغط الندم عليها , ومثل كل الذين لا يجدون من يوافق على تبرير سلوك معين قاموا به , فينبرون هم أنفسهم لخلق الأعذار لانفسهم, وجدت نفسها تقول لنفسها :
هو أيضــًا , جبــان أو متعجرف , وإلا فلماذا لم يحتج ..؟
لماذا تصرف بكل هذا البرود وكأن شيئـًا لم يحدث ..؟
ولكن ما الذي كانت تريده بالضبط منه ..؟ هي لم تتبادل معه سوى بضع عبارات عامــّه .. صحيح أنه كان رقيقـًا ولطيفـًا معها , ولكن هل يفسر ذلك هذه الرغبــة الطاغية في اختراقه ..!
طيلة ثلاثة شهور , مدفوعة بذلك الشعور الغريب الذي راح يسيـّرها , جابت بسيارتها الصغيره , شوارع المدينه كلها بحثــًا عنه .. !
دخلت المقاهي المشهوره والمطاعم الفاخره .. تجولت في المراكز التجاريه والمؤسسات العامــّه .. لكن دون جدوى ..
شعرت أنها كالذي يبحث في حلم عن حقيقة .. أو في كومة قش عن إبرة ..
حدث لها أكثر من مرة أن رأت عن بعد رجلا يشبهه فظنته هو , حتى ركضت لتبحلق في وجوه الغرباء , كالبلهاء , لتطعنها الخيبــه , إلى جانب الشعور المريع بالاحراج ..
لما استولى عليها اليأس .. حتى اقنعت نفسها أنه لا يمكن أن يكون من سكان المدينة , وإلا لكانت عثرت به , استسلمت فقررت التوقف عن التجوال بغير فائــدة ..
ذات يوم وبعد أن كانت قد ناولت الموظفه في ” البنك ……” , في الطابق الثاني لعمارة “………” , شيكًا استلمته من مكان عملها , كأجرة الشهر المنقضي , منتظرة الموظفه أن تصرف الشيك وتمدها بالنقود , حانت منها التفاتة , عبر الواجهة الزجاجيه , نحو الشارع في الاسفل .. فكادت تصرخ بأعلى صوتها ..
هناك على الرصيف , بانتظار الشارة الضوئيه , ليجتاز الشارع .. اقتربت من النافذه , بحلقت في ذهول , غير ملقية بالا لصوت موظفه البنك التي راحت تستحثها , لانها تعطل الدور ..
تناولت رزمة الاوراق النقديــة .. لم تعدها .. حشرتها في حقيبتها وطارت .. لم تنتظر المصعد .. هبطت السلم بسرعه هائلة .. وما أن وصلت باب العمارة , المنفتح على الشارع تمامــًا , حتى وجدت نفسها وجهــًا لوجه أمامه .. !
بقلم : عابر سبيل
لا تعرف عنه أي شيء .. حتى اسمه أو مهنته ..!
كان يفاجئها دائـمًا وقد استوى فوق كرسي الخيزران حول الطاولة الصغيرة المعـدّة لشخصين , في الركن الشرقي – الجنوبي , المطل على الشارع , المنحدر بقوة نحو الجنوب , حتى المفترق الكبير في أسفل الوادي ..
حاولت مرارا أن تضبطه وقت دخوله , لتعرف من أين وكيف بالضبط يأتي , ولكنها كانت دائـمـًا تخفق ..
يجلس هادئــًا .. كأنه لا يشعر بالذين حوله أبدًا .. يخرج بعض أوراق من شنطة كتف سوداء صغيرة .. يكتب فوقها أو ربما يشطب منها , لا تعرف ..
بخلاف بقية الزبائن , لا ينادي , ولا حتى يشير لأحد بخصوص طلبيته, بل ينتظر إلى أن تتقدم منه هي أو زميلتها , ليطلب همسًا قهوة وكوب ماء .. ثم يواصل انشغاله بأوراقه .. كانت أحيانــًا تضبطه وقد رفع عينيه عن الورق , ليديم التحديق جنوبــًا نحو المنحدر , كأنه ينتظر أحدًا ..
مع ذلك كان دائـمـًا يخرج , كما دخل , وحده ..
استفزها هدوءه الصارخ ..!
أثارها غيابه الموغل في الحضور ..
حيرتها لا مبالاته المدويــه ..!
ذات صباح قررت أن تطبق عليه خطة أعدتها خلال الليل .. تعمدت الدوران حول طاولته , ملبية ً طلبات رواد المقهى , رافعة ً صوتها وقت الحديث إليهم , متعمدة ً إصدار ضوضاء مفتعله حتى في مشيها , مولية ً له ظهرها , مع أن حواسها كلها عنده ..
بعد أن أنهت مهامها هناك , وقفت عند الركن المخصص لتجهيز الطلبات , قريبـًا من المدخل الرئيسي .. تظاهرت بالانشغال في العمل أو بالحديث مع زميلتها , ولكنها لازمت مراقبته من طرف خفي .. مشدودة أعصابها كوتر القوس ..
مرت نصف ساعة أو أكثر .. كانت بالنسبة لها نهارًا كاملا .. واصل قلبها الخفقان بقوة , يتنازعه شعور هو خليط من الخوف والخجل ..
لماذا تفعل الذي تفعله ؟
أمسّت لا مبالاته غرور الأنثى فيها ؟ أم ربما فضولها النسائي هو الذي يدفعها لرغبة اكتشاف الاسرار ..؟
ولكن هي مطالبة بخدمة الزبائن على الوجه الافضل , فلماذا تقحم رغبة ً شخصيـة في واجبات العمل ؟ أليس من الممكن أن يحتج ضد هذه المعاملة , ويسمع كل الموجودين ؟ ماذا ستفعل حينها ؟
ثم ماذا لو شكاها عند صاحب المقهى ؟
من أين لها هذه الثقة لتراهن على ذكــاء رجل لا تعرفــه ..!؟
لماذا تخاطر النساء بكل شيء في سبيل فك رموز غموض رجل ..؟
في مرحلة معينة لمحته يلملم أشياءه بنية المغادره .. قررت أن تسعى نحوه لتعتذر, لكن جواله , في هذه اللحظة بالذات رن .. راح يجري مكالمة مع أحدهم , وبيده الأخرى يواصل لملمة أشيائه من على الطاولة ..
مشى نحو الباب .. كانت خطواته خفيفة كأن قدماه لا تمسان الارض .. يسير بغير ضؤضاء كأنه طيف ..
تقدمت خطوتين حتى صارت في طريقه تقريبــًا .. مر بالقرب منها .. تجاوزها .. همت بالتفوه ولو بكلمة لتستوقفه .. لكنه لم ينتبه .. مشت وراءه خجلة ً متعثرة الخطى , لكنه مشغول مع الشخص الذي على الطرف الآخر..
لما صار في الخارج .. ألقت مريول العمل عن جسدها بسرعه وتبعته , لعل تلك المكالمة اللعينة تنتهي .. لكنه ركب سيارته وهو ما زال يمسك الجوال عند أذنه , ثم ابتلعته المدينة ..!
عادت أدراجها مكسوفة البال حزينـه .. تمنت لو أنها تملك الامساك بسوط لتجلد نفسها أسفـًا .. خطر ببالها مثل شعبي كانت جدتها تردده , يقول ” جا يكحلها عماها ” ..
لم تذق طعم النوم تلك الليــلة إلا قبيل الفجر بقليــل .. ولما زاد ضغط الندم عليها , ومثل كل الذين لا يجدون من يوافق على تبرير سلوك معين قاموا به , فينبرون هم أنفسهم لخلق الأعذار لانفسهم, وجدت نفسها تقول لنفسها :
هو أيضــًا , جبــان أو متعجرف , وإلا فلماذا لم يحتج ..؟
لماذا تصرف بكل هذا البرود وكأن شيئـًا لم يحدث ..؟
ولكن ما الذي كانت تريده بالضبط منه ..؟ هي لم تتبادل معه سوى بضع عبارات عامــّه .. صحيح أنه كان رقيقـًا ولطيفـًا معها , ولكن هل يفسر ذلك هذه الرغبــة الطاغية في اختراقه ..!
طيلة ثلاثة شهور , مدفوعة بذلك الشعور الغريب الذي راح يسيـّرها , جابت بسيارتها الصغيره , شوارع المدينه كلها بحثــًا عنه .. !
دخلت المقاهي المشهوره والمطاعم الفاخره .. تجولت في المراكز التجاريه والمؤسسات العامــّه .. لكن دون جدوى ..
شعرت أنها كالذي يبحث في حلم عن حقيقة .. أو في كومة قش عن إبرة ..
حدث لها أكثر من مرة أن رأت عن بعد رجلا يشبهه فظنته هو , حتى ركضت لتبحلق في وجوه الغرباء , كالبلهاء , لتطعنها الخيبــه , إلى جانب الشعور المريع بالاحراج ..
لما استولى عليها اليأس .. حتى اقنعت نفسها أنه لا يمكن أن يكون من سكان المدينة , وإلا لكانت عثرت به , استسلمت فقررت التوقف عن التجوال بغير فائــدة ..
ذات يوم وبعد أن كانت قد ناولت الموظفه في ” البنك ……” , في الطابق الثاني لعمارة “………” , شيكًا استلمته من مكان عملها , كأجرة الشهر المنقضي , منتظرة الموظفه أن تصرف الشيك وتمدها بالنقود , حانت منها التفاتة , عبر الواجهة الزجاجيه , نحو الشارع في الاسفل .. فكادت تصرخ بأعلى صوتها ..
هناك على الرصيف , بانتظار الشارة الضوئيه , ليجتاز الشارع .. اقتربت من النافذه , بحلقت في ذهول , غير ملقية بالا لصوت موظفه البنك التي راحت تستحثها , لانها تعطل الدور ..
تناولت رزمة الاوراق النقديــة .. لم تعدها .. حشرتها في حقيبتها وطارت .. لم تنتظر المصعد .. هبطت السلم بسرعه هائلة .. وما أن وصلت باب العمارة , المنفتح على الشارع تمامــًا , حتى وجدت نفسها وجهــًا لوجه أمامه .. !