المسؤولية الأخلاقية لدى القنوات الفضائية
منصور بسيم الذويب
sahafanazeeha@yahoo.com
حديث دار بيني وبين آحاد من الزملاء على طاولات منتدانا العتيد ، ملتقى
المستقبل الثقافي في بغداد . أفرزه سؤال طرحته عليهم . تطرقت فيه إلى جدوى
إنتاج المسلسلات التمثيلية من قبل القنوات الفضائية ، وكيف أصبح ديدن وعادة
ملكت على من تعاطتها من القنوات أمرها ، حتى عادت لا تحسن أن تترك إدمانها
وولعها ، أو أن تتخلى عن عشقها هذا وهيامها . وصار البعض منها يتخبط في
إنتاج المسلسلات ، فيفسد الأذواق ، ويحرض على الجريمة ، وينمي العداء ،
ويثير الشقاق ، ويهيج الفتن ، ويأتي بما تأباه الفطرة السليمة والعقل
الراجح . أمّا الأسوياء من الأخيار ، فيبذلون الجهود لإنتاج الصالح ،
وينفقون الأموال الطائلة ليغرسوا التربية الصحيحة من خلال هذه المسلسلات
لتفرز الخلق القويم والإستقامة في السلوك ، يتعهدونها بالفن الراقي ،
وبالكلمة الطيبة ، وبالغرض الشريف ، فيشعر المجتمع الفاضل أن فيها أمله
المنشود ، ويجد التلميذ فيها ضالته البريئة ، فيكون بها نبتة غضة طرية لا
تستعصي على التقويم ولا تأباه .
حول هذا الشأن دونت نخبة من الزملاء كلمات تبحث في هذه المسلسلات وتسجل
انطباعاتها وقناعاتها وآرائها حولها بكل صراحة ، فكانت هذه المشاركات .
العمل على ترشيد وتهذيب أداء القنوات الفضائية
رداً على سؤالي الذي طرحته حول إنتاج القنوات الفضائية للمسلسلات التمثيلية
، يقول السيد (فالح حسن القريشي) معاون مدير عام تربية الرصافة الأولى :
للمسلسلات التي تنتجها القنوات الفضائية انعكاسات تربوية وأخلاقية تلقي
بضلالها على عقول ونفوس الناشئة والمراهقين وتساهم في عملية البناء
والتكوين لشخصياتهم . من الضرورة أن تصب حوارات المسلسل وأحداثه في أهداف
وغايات نبيلة تؤدي إلى إصلاح العلاقات الإجتماعية والإنسانية وإلى ترسيخ
القيم السوية لها ، واحترام كرامة الإنسان ، وتقدير الحرية وتهذيب العادات
العشائرية وتنقية العلاقات المتبادلة بين العوائل والأقارب والجيران ،
لتكون دروساً إصلاحية تطور البنى الإجتماعية بين شرائح المجتمعات كافة ،
وتقدم زاداً إنسانياً راقياً يثير ويجذب انتباه المشاهدين وبمختلف
المستويات والأعمار ، خصوصاً وإن هذه المنابر الإعلامية الثقافية تستثمر
البلاغة الألكترونية والثقافة الصورية بكل انبهاراتها ، لتخترق الجهاز
العصبي والعقلي والنفسي لأطفالنا وشبابنا ، فإن أحسن إعدادها تربوياً
استطاعت أن تساهم بفاعلية في عملية التنوير الثقافي والإنساني لتخلق شخصيات
وأفراد ومواطنين صالحين . يجب أن لا يسمح بإنتاج مسلسلات تحتوي مشاهد
وعلاقات خاطئة تحرف عقول وسلوكيات الناشئة ، من تلك التي تبث القيم الملوثة
والسموم لتعرض على أساس أنها طبيعية وعادية ، ومن ثم نشرها على نطاق واسع .
القنوات الفضائية من المنابر الإعلامية التثقيفية الخطيرة ، فمن الضرورة
أن تكون اختياراتها للمسلسلات التي تنتجها دقيقة . ولن تعدم المجتمعات
السوية الراقية الوسائل لترشيد وتهذيب أداء هذه القنوات في المستقبل ،
لتكون إشعاعاً وينبوعاً صافياً ينهل منه الآخرون .
عصر دراما اليوم إسفاف فضائي
أمّا الناقد (محمد يونس) فقد تحدث إلينا من وجهة نظر ناقد متخصص بالمسلسلات
، فأفادنا بالآتي : إنتاج المسلسلات لا يخلو من الدوافع ، ولهذه الدوافع
مقاصد متعددة ، منها مادية ومنها فنية . فالمقصد المادي يدعو إدارة
الإنتاج إلى التحكم في الإمكانات التسويقية ، وقبلها الكلفة والتفاصيل
المادية . ولكن نتيجة لتطورات إجمالية كان للإنتاج أن يدخل بوصفه رقيب على
مادة السيناريو ، وهذه الفكرة بدأت من قطاع حكومي يخشى أن يواجه النقد من
شخصيات المسلسل . وتطور إطار الفكرة في حركته ، ثم بعد التغيير (حرب
العراق) ، واجهنا الإنتاج بطريقة جديدة ، حيث صارت إدارة الإنتاج أكثر
ضيقاً في مساحتها ، فكان الهاجس الأساس حسب مفهوم علم الإجتماع ، إستهلاك
للذات الإجتماعية . فكانت هناك مجانية ورتابة وقمع أيضاً لأفكار حساسة
ومهمة إنسانياً واجتماعياً ، وتحول عصر دراما اليوم إلى إسفاف فضائي ، لا
يلامس بأي مستوى الهم الإجتماعي ، وعلى الأخص المسكوت عنه والمقموع ، بل
تطرفت فضائيات في منتوجها الدرامي مخلخلة واقعاً وجدت في تماسكه ثغرة
استغلتها لأسباب لا تمت بالدراما بصلة ، ومن الطبيعي فستختفي الذائقة
الفنية إلى حد مؤثر في هذه المسلسلات ، وصار المواطن العادي في محنة أجبرته
على الإنجذاب الشكلي ، ففي مسلسل (باب الحارة) تجد مقومات الفن للمجتمع ،
ولكنه لم يطرح هموم المواطن العربي ، إلاّ أنه ألبس ذلك المواطن ثوب
البسالة ، التي هي جزء من فطرته وتأريخه ، ولابد للمسلسل العربي أن يقدم
الفرد بلا تزويق أو تجميل أو تحميل ما لايطيق . لهذا تجد فشلاً ذريعاً في
خلق واقع المسلسل بكل مقوماته ، حتى الممثل بقي خارج الشخصية ، فضلاً عن أن
بعض الممثلات يفرضن ملابس خاصة ومكياج تجميلي متطرف . هذا إذا استثنينا
الضعف في محاور أخرى ، مثل الحوار الذي لا يفي بشروطه الفنية ، كما في
المسلسلات التركية التي حيدت المشاهد العربي لكفتها ، فهي بلا رتوش ، وواقع
المسلسل يطغى حتى على أفضل ممثل شهرة . أمّا مسلسل (وادي الذئاب) المعروض
حالياً وحصرياً على قناة أبوظبي ، فهو يمثل جرأة فنية متفوقة ، حيث تجد
إنعكاس العنف السياسي على الإقتصاد والمجتمع والفرد ، مع تحريك أفق المسلسل
من المحلية إلى العالمية . في النهاية فإن كلمة (موضة) التي وردت في سؤال
كاتب التحقيق ، تمثل ميزة على رأي بارت . وأننا لا نجد في الدراما العربية
والعراقية تفوقاً ملموساً إلا في (سنوات النار) بجزئه الأول تقريباً ، و
(باب الحارة) في تأريخه .
الحاجة إلى مسلسلات تعيد إنتاج الهوية العراقية وتشيع ثقافة التسامح
بين الناقد (سعد مطر عبود) وجهة نظره في هذا الموضوع ، حيث رأى أن الحاجة
إلى إنتاج المسلسلات التلفزيونية ماسة وقائمة لأغراض متعددة , أبرزها توفر
(فضاء الحركة) و (الثيمة) المتجددة ، وبنفس الوقت (الضرورة الإجتماعية) وقد
تتبعها الضرورة الإبداعية . ولكن ما يؤخذ على هذه المسلسلات التي تنتجها
بعض القنوات الفضائية هو غلبة طابع (الذاتية) لا (الموضوعية) و (النفعية)
لا (الوطنية) لحاجة المجتمع العراقي في هذا الوقت إلى الموضوع الهادف
والقيم الوطنية لإعادة إنتاج الهوية العراقية ، وإشاعة ثقافة التسامح
واحترام الآخر ، بعيداً عن الترويج للعنف وتنشيط الضدية وتفعيل الجهوية .
على القنوات التي تنتج المسلسلات أن تبحث عن الثيمة التي تتناسب مع الظرف
والواقع ، وعليها أن ترتقي إلى مستوى الوعي ، وأن تتجاوز الحلقات الضيقة ،
بشرط توفر عنصر الإبداع ، ولابأس في أن تدخل هذه الحركة الإبداعية مجال
التنافس على الصعيد المحلي والإقليمي والعالمي ، لإنتاج هوية فنية عراقية
للسينما العراقية والفن العراقي .
أدلجة العمل الدرامي للوطن وللهم الإجتماعي
وللشاعر (جبار سهم السوداني) رأيه الخاص حيث يقول : من محاسن العمل الدرامي
الذي تنتجه القنوات الفضائية ، أن يكون مؤدلجاً للوطن وللهم الإجتماعي .
أمّا إذا كان ولائياً لغرضية تخريبية ، فهو لايقل عن أي عمل هدمي لبنى
المجتمع ، فقد دأبنا على مشاهدة بعض القنوات الفضائية وهي تضخ إلينا سموماً
وغثاءً عبر مسلسلات تزيد من عناءات مجتمعاتنا المبتلاة . ماذا ندعو هذه
الأعمال ، هل ندعوها الإرعاب والتخريب ؟ لا أود أن أشخص تلك القنوات
الخطرة ، فهي معروفة الولاء ، وغايتها إيقاف عجلة البناء والأمان ، ولسوف
تزول تلك المرايا الصدئة المهشمة ، ولن يبقى إلاّ الجمال والمناطق البيضاء ،
فالخير والمحبة والسلام في الإبداع الشائد ، أمّا دعاة التفاهات والترهات
والفرقة ، فسوف يسقطون بالنهاية ، والبقاء للأصلح . فهل وجدت الرافدين
لايمنحان سوى الخصب والنماء ؟ وهل تذوقت في رطب العراق غير الحلاوة ؟ وهل
يرضى عاقل عملاً درامياً يدعو للتغريب والتخريب ؟ معاذ الله .
مسلسلات تدعو إلى العنف والفوضى
إتهم الشاعر (عبد الحميد الجّباري) بعض القنوات الفضائية بإنتاج ما يدعو
إلى العنف والفوضى والإضطراب وبانعدام الشعور بالمسؤولية ، فيتحدث عن ذلك :
كثير من الناس يخشون الله ، وهناك من يخش القانون ، والبعض سجيته الحياء
وتأنيب الضمير . وهناك من غابت عنه كل هذه الثوابت . فبعض الفضائيات انعدم
لديها الإحساس بواجب صيانة الأمانة وأداء الرسالة الإعلامية بالوجه الأمثل .
فأخذت تدعو من خلال مسلسلاتها التي تنتجها إلى العنف وإلى إثارة الإضطراب
والفوضى ، وإلى التأثير على المتلقي وحرف سلوكه ، سيما الشباب من الذين لم
يتحصنوا بعد بالخبرة وبالتجربة الكافية ، فأساءت إلى جمهور المشاهدين
وأرشدته إلى عادات إجرامية خطيرة أودت به وبالمجتمع ، وأوحت إليه عبر هذه
المسلسلات أن يتنكر لأهله ولصحبته وللأخلاق وللمثل العليا .
فمن الضرورة أن يشكل جهاز دولي متخصص يرصد كل هذه الإساءات ، على أن تكون
له الصلاحية في أن يوقف كل ما من شأنه أن يحرف عن الصواب ويعلم الإجرام .
والثقة كبيرة بأن الرأي العام قادر على أن يميز بين الجميل والقبيح والغث
والسمين . وبتضافر الجهود سوف تواصل الإنسانية مسيرتها نحو بناء أجيال
محصنة ومجتمعات مزدهرة صالحة .
يعد إعلام القنوات الفضائية من أخطر وأقوى طرق الإعلام في عصرنا الحاضر على
الإطلاق ، ووسيلة من أنجح الوسائل لبناء الرأي العام وخلق التصورات
وللترويج للشخصيات العامة وإيصال المعلومات على نطاق واسع . ولا ريب فإن
العاملين في تلك القنوات يعلمون يقيناً هذه الحقيقة ، ويدركون مدى فاعليتها
، يتنازعهم في ذلك توجهان . الأول : التقيد بتعليمات مدير القناة أو
مشرفها العام الذي يعمل بوحي من السياسات التي وضعت عند تأسيس القناة ،
والتي تشكل الأهداف الرئيسة التي يسعى إليها المؤسسون . والتوجه الثاني :
رغبتهم أحياناً في الخروج على هذه السياسات والتمرد على بنودها السرية أو
المعلنة حينما يعتقدون أنها تتعارض مع المثل والأخلاق التي يؤمنون ، ولن
يكون هذا الإعتراض في الغالب إلاّ ضرباً من ضروب التخبط والعبث واللاجدوى
في مفهوم أصحاب القرار من الماسكين بزمام أمر هذا المنبر الإعلامي ، لأن
السماح بذلك نقض للغاية التي أنشئت القناة لأجلها ، وأنفقت الأموال الطائلة
في شأنها ، ولأن الشذوذ عن سياسة هذه الفضائية أو تلك سيضطر من بيده أمر
التمويل المالي لقطع الإنفاق ، للتعارض الحاصل في السبل التي تؤدي إلى
أهدافهم المرسومة . وفي بعض الأحيان فإن هذا من شأنه أن يسبب انهياراً
عاجلاً ، تعدم معه حتى فرصة استلام مرتبات الموظفين المستحقة . ولكن هذا
نادر الحدوث لأن المسؤولين لن يسمحوا بالتمادي في المعارضة وسوف يتداركون
الأمر بسرعة ، فإمّا أن يستقيل المعترض ، أو أن يرضخ لكل ما يطلب منه ، وإن
خالف ذلك ثوابت الأخلاق واصطدم بالمبادئ . لأجل ذلك تباينت القنوات
الفضائية في تقديم برامجها ، فهي تتأرجح بين النافع الذي يبني ويعمِّر مع
التسلية البريئة التي تروِّح عن المشاهد وتخفف عنه ما لاقاه في يوم عمله ،
وبين الضار الذي يسيء ويهدم ويغرس في الأعواد الغضة الطرية ما يحرفها
ويضللها ، حتى تَعْوَج وتنحني فما تعود تُحسن الإستقامة ، وما تبرح تشتكي
القناعة وتتهم الصواب .
منصور بسيم الذويب
sahafanazeeha@yahoo.com
حديث دار بيني وبين آحاد من الزملاء على طاولات منتدانا العتيد ، ملتقى
المستقبل الثقافي في بغداد . أفرزه سؤال طرحته عليهم . تطرقت فيه إلى جدوى
إنتاج المسلسلات التمثيلية من قبل القنوات الفضائية ، وكيف أصبح ديدن وعادة
ملكت على من تعاطتها من القنوات أمرها ، حتى عادت لا تحسن أن تترك إدمانها
وولعها ، أو أن تتخلى عن عشقها هذا وهيامها . وصار البعض منها يتخبط في
إنتاج المسلسلات ، فيفسد الأذواق ، ويحرض على الجريمة ، وينمي العداء ،
ويثير الشقاق ، ويهيج الفتن ، ويأتي بما تأباه الفطرة السليمة والعقل
الراجح . أمّا الأسوياء من الأخيار ، فيبذلون الجهود لإنتاج الصالح ،
وينفقون الأموال الطائلة ليغرسوا التربية الصحيحة من خلال هذه المسلسلات
لتفرز الخلق القويم والإستقامة في السلوك ، يتعهدونها بالفن الراقي ،
وبالكلمة الطيبة ، وبالغرض الشريف ، فيشعر المجتمع الفاضل أن فيها أمله
المنشود ، ويجد التلميذ فيها ضالته البريئة ، فيكون بها نبتة غضة طرية لا
تستعصي على التقويم ولا تأباه .
حول هذا الشأن دونت نخبة من الزملاء كلمات تبحث في هذه المسلسلات وتسجل
انطباعاتها وقناعاتها وآرائها حولها بكل صراحة ، فكانت هذه المشاركات .
العمل على ترشيد وتهذيب أداء القنوات الفضائية
رداً على سؤالي الذي طرحته حول إنتاج القنوات الفضائية للمسلسلات التمثيلية
، يقول السيد (فالح حسن القريشي) معاون مدير عام تربية الرصافة الأولى :
للمسلسلات التي تنتجها القنوات الفضائية انعكاسات تربوية وأخلاقية تلقي
بضلالها على عقول ونفوس الناشئة والمراهقين وتساهم في عملية البناء
والتكوين لشخصياتهم . من الضرورة أن تصب حوارات المسلسل وأحداثه في أهداف
وغايات نبيلة تؤدي إلى إصلاح العلاقات الإجتماعية والإنسانية وإلى ترسيخ
القيم السوية لها ، واحترام كرامة الإنسان ، وتقدير الحرية وتهذيب العادات
العشائرية وتنقية العلاقات المتبادلة بين العوائل والأقارب والجيران ،
لتكون دروساً إصلاحية تطور البنى الإجتماعية بين شرائح المجتمعات كافة ،
وتقدم زاداً إنسانياً راقياً يثير ويجذب انتباه المشاهدين وبمختلف
المستويات والأعمار ، خصوصاً وإن هذه المنابر الإعلامية الثقافية تستثمر
البلاغة الألكترونية والثقافة الصورية بكل انبهاراتها ، لتخترق الجهاز
العصبي والعقلي والنفسي لأطفالنا وشبابنا ، فإن أحسن إعدادها تربوياً
استطاعت أن تساهم بفاعلية في عملية التنوير الثقافي والإنساني لتخلق شخصيات
وأفراد ومواطنين صالحين . يجب أن لا يسمح بإنتاج مسلسلات تحتوي مشاهد
وعلاقات خاطئة تحرف عقول وسلوكيات الناشئة ، من تلك التي تبث القيم الملوثة
والسموم لتعرض على أساس أنها طبيعية وعادية ، ومن ثم نشرها على نطاق واسع .
القنوات الفضائية من المنابر الإعلامية التثقيفية الخطيرة ، فمن الضرورة
أن تكون اختياراتها للمسلسلات التي تنتجها دقيقة . ولن تعدم المجتمعات
السوية الراقية الوسائل لترشيد وتهذيب أداء هذه القنوات في المستقبل ،
لتكون إشعاعاً وينبوعاً صافياً ينهل منه الآخرون .
عصر دراما اليوم إسفاف فضائي
أمّا الناقد (محمد يونس) فقد تحدث إلينا من وجهة نظر ناقد متخصص بالمسلسلات
، فأفادنا بالآتي : إنتاج المسلسلات لا يخلو من الدوافع ، ولهذه الدوافع
مقاصد متعددة ، منها مادية ومنها فنية . فالمقصد المادي يدعو إدارة
الإنتاج إلى التحكم في الإمكانات التسويقية ، وقبلها الكلفة والتفاصيل
المادية . ولكن نتيجة لتطورات إجمالية كان للإنتاج أن يدخل بوصفه رقيب على
مادة السيناريو ، وهذه الفكرة بدأت من قطاع حكومي يخشى أن يواجه النقد من
شخصيات المسلسل . وتطور إطار الفكرة في حركته ، ثم بعد التغيير (حرب
العراق) ، واجهنا الإنتاج بطريقة جديدة ، حيث صارت إدارة الإنتاج أكثر
ضيقاً في مساحتها ، فكان الهاجس الأساس حسب مفهوم علم الإجتماع ، إستهلاك
للذات الإجتماعية . فكانت هناك مجانية ورتابة وقمع أيضاً لأفكار حساسة
ومهمة إنسانياً واجتماعياً ، وتحول عصر دراما اليوم إلى إسفاف فضائي ، لا
يلامس بأي مستوى الهم الإجتماعي ، وعلى الأخص المسكوت عنه والمقموع ، بل
تطرفت فضائيات في منتوجها الدرامي مخلخلة واقعاً وجدت في تماسكه ثغرة
استغلتها لأسباب لا تمت بالدراما بصلة ، ومن الطبيعي فستختفي الذائقة
الفنية إلى حد مؤثر في هذه المسلسلات ، وصار المواطن العادي في محنة أجبرته
على الإنجذاب الشكلي ، ففي مسلسل (باب الحارة) تجد مقومات الفن للمجتمع ،
ولكنه لم يطرح هموم المواطن العربي ، إلاّ أنه ألبس ذلك المواطن ثوب
البسالة ، التي هي جزء من فطرته وتأريخه ، ولابد للمسلسل العربي أن يقدم
الفرد بلا تزويق أو تجميل أو تحميل ما لايطيق . لهذا تجد فشلاً ذريعاً في
خلق واقع المسلسل بكل مقوماته ، حتى الممثل بقي خارج الشخصية ، فضلاً عن أن
بعض الممثلات يفرضن ملابس خاصة ومكياج تجميلي متطرف . هذا إذا استثنينا
الضعف في محاور أخرى ، مثل الحوار الذي لا يفي بشروطه الفنية ، كما في
المسلسلات التركية التي حيدت المشاهد العربي لكفتها ، فهي بلا رتوش ، وواقع
المسلسل يطغى حتى على أفضل ممثل شهرة . أمّا مسلسل (وادي الذئاب) المعروض
حالياً وحصرياً على قناة أبوظبي ، فهو يمثل جرأة فنية متفوقة ، حيث تجد
إنعكاس العنف السياسي على الإقتصاد والمجتمع والفرد ، مع تحريك أفق المسلسل
من المحلية إلى العالمية . في النهاية فإن كلمة (موضة) التي وردت في سؤال
كاتب التحقيق ، تمثل ميزة على رأي بارت . وأننا لا نجد في الدراما العربية
والعراقية تفوقاً ملموساً إلا في (سنوات النار) بجزئه الأول تقريباً ، و
(باب الحارة) في تأريخه .
الحاجة إلى مسلسلات تعيد إنتاج الهوية العراقية وتشيع ثقافة التسامح
بين الناقد (سعد مطر عبود) وجهة نظره في هذا الموضوع ، حيث رأى أن الحاجة
إلى إنتاج المسلسلات التلفزيونية ماسة وقائمة لأغراض متعددة , أبرزها توفر
(فضاء الحركة) و (الثيمة) المتجددة ، وبنفس الوقت (الضرورة الإجتماعية) وقد
تتبعها الضرورة الإبداعية . ولكن ما يؤخذ على هذه المسلسلات التي تنتجها
بعض القنوات الفضائية هو غلبة طابع (الذاتية) لا (الموضوعية) و (النفعية)
لا (الوطنية) لحاجة المجتمع العراقي في هذا الوقت إلى الموضوع الهادف
والقيم الوطنية لإعادة إنتاج الهوية العراقية ، وإشاعة ثقافة التسامح
واحترام الآخر ، بعيداً عن الترويج للعنف وتنشيط الضدية وتفعيل الجهوية .
على القنوات التي تنتج المسلسلات أن تبحث عن الثيمة التي تتناسب مع الظرف
والواقع ، وعليها أن ترتقي إلى مستوى الوعي ، وأن تتجاوز الحلقات الضيقة ،
بشرط توفر عنصر الإبداع ، ولابأس في أن تدخل هذه الحركة الإبداعية مجال
التنافس على الصعيد المحلي والإقليمي والعالمي ، لإنتاج هوية فنية عراقية
للسينما العراقية والفن العراقي .
أدلجة العمل الدرامي للوطن وللهم الإجتماعي
وللشاعر (جبار سهم السوداني) رأيه الخاص حيث يقول : من محاسن العمل الدرامي
الذي تنتجه القنوات الفضائية ، أن يكون مؤدلجاً للوطن وللهم الإجتماعي .
أمّا إذا كان ولائياً لغرضية تخريبية ، فهو لايقل عن أي عمل هدمي لبنى
المجتمع ، فقد دأبنا على مشاهدة بعض القنوات الفضائية وهي تضخ إلينا سموماً
وغثاءً عبر مسلسلات تزيد من عناءات مجتمعاتنا المبتلاة . ماذا ندعو هذه
الأعمال ، هل ندعوها الإرعاب والتخريب ؟ لا أود أن أشخص تلك القنوات
الخطرة ، فهي معروفة الولاء ، وغايتها إيقاف عجلة البناء والأمان ، ولسوف
تزول تلك المرايا الصدئة المهشمة ، ولن يبقى إلاّ الجمال والمناطق البيضاء ،
فالخير والمحبة والسلام في الإبداع الشائد ، أمّا دعاة التفاهات والترهات
والفرقة ، فسوف يسقطون بالنهاية ، والبقاء للأصلح . فهل وجدت الرافدين
لايمنحان سوى الخصب والنماء ؟ وهل تذوقت في رطب العراق غير الحلاوة ؟ وهل
يرضى عاقل عملاً درامياً يدعو للتغريب والتخريب ؟ معاذ الله .
مسلسلات تدعو إلى العنف والفوضى
إتهم الشاعر (عبد الحميد الجّباري) بعض القنوات الفضائية بإنتاج ما يدعو
إلى العنف والفوضى والإضطراب وبانعدام الشعور بالمسؤولية ، فيتحدث عن ذلك :
كثير من الناس يخشون الله ، وهناك من يخش القانون ، والبعض سجيته الحياء
وتأنيب الضمير . وهناك من غابت عنه كل هذه الثوابت . فبعض الفضائيات انعدم
لديها الإحساس بواجب صيانة الأمانة وأداء الرسالة الإعلامية بالوجه الأمثل .
فأخذت تدعو من خلال مسلسلاتها التي تنتجها إلى العنف وإلى إثارة الإضطراب
والفوضى ، وإلى التأثير على المتلقي وحرف سلوكه ، سيما الشباب من الذين لم
يتحصنوا بعد بالخبرة وبالتجربة الكافية ، فأساءت إلى جمهور المشاهدين
وأرشدته إلى عادات إجرامية خطيرة أودت به وبالمجتمع ، وأوحت إليه عبر هذه
المسلسلات أن يتنكر لأهله ولصحبته وللأخلاق وللمثل العليا .
فمن الضرورة أن يشكل جهاز دولي متخصص يرصد كل هذه الإساءات ، على أن تكون
له الصلاحية في أن يوقف كل ما من شأنه أن يحرف عن الصواب ويعلم الإجرام .
والثقة كبيرة بأن الرأي العام قادر على أن يميز بين الجميل والقبيح والغث
والسمين . وبتضافر الجهود سوف تواصل الإنسانية مسيرتها نحو بناء أجيال
محصنة ومجتمعات مزدهرة صالحة .
يعد إعلام القنوات الفضائية من أخطر وأقوى طرق الإعلام في عصرنا الحاضر على
الإطلاق ، ووسيلة من أنجح الوسائل لبناء الرأي العام وخلق التصورات
وللترويج للشخصيات العامة وإيصال المعلومات على نطاق واسع . ولا ريب فإن
العاملين في تلك القنوات يعلمون يقيناً هذه الحقيقة ، ويدركون مدى فاعليتها
، يتنازعهم في ذلك توجهان . الأول : التقيد بتعليمات مدير القناة أو
مشرفها العام الذي يعمل بوحي من السياسات التي وضعت عند تأسيس القناة ،
والتي تشكل الأهداف الرئيسة التي يسعى إليها المؤسسون . والتوجه الثاني :
رغبتهم أحياناً في الخروج على هذه السياسات والتمرد على بنودها السرية أو
المعلنة حينما يعتقدون أنها تتعارض مع المثل والأخلاق التي يؤمنون ، ولن
يكون هذا الإعتراض في الغالب إلاّ ضرباً من ضروب التخبط والعبث واللاجدوى
في مفهوم أصحاب القرار من الماسكين بزمام أمر هذا المنبر الإعلامي ، لأن
السماح بذلك نقض للغاية التي أنشئت القناة لأجلها ، وأنفقت الأموال الطائلة
في شأنها ، ولأن الشذوذ عن سياسة هذه الفضائية أو تلك سيضطر من بيده أمر
التمويل المالي لقطع الإنفاق ، للتعارض الحاصل في السبل التي تؤدي إلى
أهدافهم المرسومة . وفي بعض الأحيان فإن هذا من شأنه أن يسبب انهياراً
عاجلاً ، تعدم معه حتى فرصة استلام مرتبات الموظفين المستحقة . ولكن هذا
نادر الحدوث لأن المسؤولين لن يسمحوا بالتمادي في المعارضة وسوف يتداركون
الأمر بسرعة ، فإمّا أن يستقيل المعترض ، أو أن يرضخ لكل ما يطلب منه ، وإن
خالف ذلك ثوابت الأخلاق واصطدم بالمبادئ . لأجل ذلك تباينت القنوات
الفضائية في تقديم برامجها ، فهي تتأرجح بين النافع الذي يبني ويعمِّر مع
التسلية البريئة التي تروِّح عن المشاهد وتخفف عنه ما لاقاه في يوم عمله ،
وبين الضار الذي يسيء ويهدم ويغرس في الأعواد الغضة الطرية ما يحرفها
ويضللها ، حتى تَعْوَج وتنحني فما تعود تُحسن الإستقامة ، وما تبرح تشتكي
القناعة وتتهم الصواب .